لقد حفلت المدارس العلمية في البحرين بمجموعة من الحوادث والقضايا واللطائف العلمية وغيرها على يد علمائها سواء كانت في البحرين أو خارجها، وتلك الحوادث والقضايا تعكس لنا بعداً علمياً وثقافياً خاضه علماء البحرين خلال تدريسهم ومدارستهم للعلم سواء في البحرين أو خارجها، وتعطينا مقدار العمق الثقافي والأدبي والديني لدى علماء البحرين ومقدرتهم على مواجهة القضايا العلمية وإعطاء حلول لها عبر النقاش الجاد والعلمي.

وفي هذا البحث أحاول أن اسلط الضوء على تلك اللطائف والطرائف العلمية ليتبين لنا الدور العلمي والثقافي لعلماء البحرين، وسوف يكون البحث في عدة حلقات.

(1)

بين الشيخ محمد بن ماجد وحاكم البحرين من قبل العجم

قال الشيخ علي بن حسن البلادي: حدثني أقدم مشائخي الثقة العلامة التقي الصالح شيخنا الأرشد الشيخ أحمد بن العالم الصالح الشيخ صالح البحراني (ره) عن شيخه التقي المقدس السيد علي بن السيد محمد بن السيد إسحاق البلادي البحراني (قدس الله سرهما وبرضوانه سرهما) أن العامل الماجد الشيخ محمد بن ماجد، هو شيخ الإسلام في البحرين، وولي الحسبة الشرعية، وكان الحاكم فيها من جهة العجم هو المرحوم الشيخ محمد آل ماجد البلادي البحراني، وكانت عند الحاكم الشيخ محمد عمارة بجانب البحر، وكان الشيخ محمد بن ماجد يدرس في مسجد من مساجد البلاد، ويجتمع عنده جمع كثير من فضلاء البحرين، وكان المسجد المذكور الذي يدرس فيه الشيخ المزبور على طريق العمارة التي يعمرها ذلك الحاكم، وفي كل يوم يركب ذلك الحاكم عصراً للنظر إلى عمارته، فيمر بالمسجد الذي يدرس فيه الشيخ ويجلس معهم ويستمع البحث ثم يركب على فرسه ويمضي إلى عمارته، فكان يوماً من الأيام تأخر من وقته الذي يركب فيه، وظن أن الدرس قد انقضى بسبب تأخيره، فمر عليهم ولم يمض إليهم، فرآه الشيخ والجماعة ماراً وفي آخر النهار رجع من العمارة ومر على المسجد وإذا هم حضور فيه لم يتفرقوا عنه، فنزل ودخل وسلّم على الشيخ فزبره الشيخ وغضب عليه وتفل في وجهه وسبّه، وقال له: قد شغلتك الدنيا وحبها عن استماع أحكام الله وأخبار آل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والشيخ الحاكم يتضرع بين يديه ويعتذر إليه بظن فوات الوقت عليه، والشيخ يزيده سباً ويوليه غضباً، وكان الشيخ + فيه حدة مزاج وصلافة، ولما تفل في وجهه مسح الحاكم التفلة بيديه وقال: الحمد لله الذي جعل ريق العلماء شفاء من كل داء، وتفرق المجلس بعد ذلك والشيخ على غضبه عليه، فلما افترقا وذهب عنه الغيظ فكر في نفسه ورأى أنه قد أخطأ معه وهو حاكم البلد ورئيسها على الإطلاق، ولا سيما أنه اعتذر إليه بعذر، وكان ذلك الحاكم هو الذي يجري الإنفاق على الشيخ وتلامذته من ماله، فخاف الشيخ أن يعقبه ذلك الحاكم بسوء ومكروه لسوء صنيعه معه، فلما مضى شطر من الليل وإذا بباب بيت الشيخ يطرق، فخاف من ذلك وارتقب ما ظنه مما هنالك، وأرسل من يكشف الخبر وإذا هو رسول ذلك الحاكم ومعه خلعة وكسوة له ولأهل بيته ولتلامذته دنانير ودراهم زيادة عن وظائفهم المقررة المعتادة، ويقول له: إن الشيخ يعتذر ويقول هذه كفارة وصدقة عما عملناه هذا اليوم من التقصير، فطابت نفس ذلك الماجد بعد الخوف والكدر، وآمنت من ذلك الحذر.

(2)

ما جرى بين الشيخ الأصبعي والقدمي

قال الشيخ الشيخ علي البلادي: الشيخ الفاضل الأسعد الشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن عطية الأصبعي البحراني، لم أقف له على ترجمة في كلام أحد من أصحابنا، ولعله لعدم اتصال أحد منهم برواية عنه لا يذكرون عالباً إلاّ مشائخ للرواية واهملوا أكثر العلماء الذين ليس لهم اتصال بالسند، وربما ذكروا الشاذ والنادر من غيرهم بالعرض، ولم أقف على من ذكره سوى شيخنا الشيخ يوسف في كتابه الكشكول في المكاتبة التي صدرت منه لتلميذه العالم الرباني الشيخ صلاح بن العلامة الشيخ علي بن سليمان القدمي، وكفاه هذا الكتاب فضلاً وعلماً وأدباً ونبلاً، الذي تصدر لشرحه في كتاب مستقل بعض العلماء السادة من توبلي السيد علي بن السيد حسين الأديب اللغوي، وقد كانت هذه المكاتبة في أعلى طبقات البلاغة نثراً وشعراً، ويكفيه أيضاَ تلمّذ مثل الشيخ صلاح الدين المزبور عليه، ووصف الشيخ يوسف له بالشيخ الفاضل الأمجد، ولا بأس بنقل ذلك الكتاب لما فيه من البلاغة والأدب، لأن كتابنا هذا كتاب اعتبار وكمّل وأدب.

قال الشيخ يوسف المذكور في الكتاب المزبور: هذا كتاب أرسله الشيخ الفاضل الأمجد الشيخ أحمد بن المرحوم الشيخ محمد بن عطية البحراني الأصبعي لجناب الشيخ الكامل العلامة الشيخ صلاح الدين بن العلامة الشيخ علي بن سليمان البحراني القدمي، وكان الشيخ صلاح الدين المذكور في صغره يقرأ على الشيخ أحمد المزبور، فعذله قوم معاندون للشيخ أحمد عن درسه عليه وقراءته لديه، وقالوا كيف يجوز أن يتقدم المفضول على ىالفاضل؟ أم كيف يجوز أن يسود الناقص على الكامل؟ فتأخر الشيخ كمال الدين عن ملازمته وترك مباحثته وممارسته، فكتب له الشيخ أحمد عاتباً عليه وناصحاً إليه، فلما وصل الكتاب للشيخ صلاح الدين رجع إلى ما كان عليه من الدرس على الشيخ أحمد المذكور والمباحثة، وترك قول العاذلين والمناقشة، وقد شرحه السيد الشريف السيد علي بن السيد الشريف الفردوسي السيد حسين العلامة المشهور الكتكاني التوبلي البحراني، وهذه صورة الكتاب.

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد: حمداً لله وإن كلب الزمان وخانت الإخوان، واختلفت الأهواء، وتشتت الآراء، والصلاة والسلام على رسوله محمد | الذي صدع بالرسالة، وبالغ في الدلالة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، وأدب نفسه في إرشاد عباده، لم يبال بشقاق مشقاق ولا عذل عاذل، ولم تأخذه في الله لومة لائم ولا عذل عاذل، وآله الذين سقوا كؤوس الخذلان، وتجرعوا ذعاف الهوان، واحتملوا في الله عظيم الأذى، واغضوا على أليم القذى، وشروا نفوسهم في طاعة الجبار، واشتروا بدار الغيار دار القرار.

فقد اصطفيتك من الإخوان، وجعلتك إنسان عين الزمان، وبعجت لك طبي وقلت قطني من الأصحاب قطني، وغذيتك من لبان العلم والحكمة ما يبريء الأبرص والأكمه، وصيّرت ودك ألصق من الجود بحاتم، والشرف بهاشم، وانقضت ظهري في تأديبك وتهذيبك، وبذلت جهدي في تأريبك وتشذيبك حتى ضارعت قساً وسحبان بعد أن كنت وباقلا رضيعي لبان، واحتملت فيك كيد فلان وهو داهية وظهيره الذي هو أدهى وأمر، وصبرت منهما على ضرب أخماس لأسداس، وعذت من شرهما برب الناس، وقد كان أظهرا لي المودة ولم أدر أن الذئب يسمى أبا جعده حتى لقيت منهما من الأهوال ما وددت تعويض يسيره بالسمام، ورميت من الوجال بما يزيد عشيره بين أبناء سام غير أن الله انجاني بلطفه من مكائدهما، وانقذني من حبائلهما ومصائدهما، وكأن الغادر لم يعي ما قال ربه {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} مع ما لقيته منك من إذلال الصبوة، وجفوة النخوة، وما زلت مع ذلك أرأف بك من والدك، وأنصر لك من ساعدك، فكان جزائي منك أن تركتني ترك ظبية ظله، وحملتني على شاة أله خير حلابك تنطحين، ابعد الوهي ترتعين، وأنت مبصرة.

أما والذي له الحمد والشكر ما لي ذنب إلاّ ذنب صخر، ولعمري لم نجد الأخيار يجزون جزاء سنمار، وهبك ابدلتني بنظرة ذي حنق أسرق العلم أم فسق؟ أم ظهر منه بعد الوقار الطيش والنزق حتى استوجب أن تشفع هجري بهجره، وتطرح مع اطراحي عظيم فخره؟

ألا من يشتري سهراً بنوم ... ويتبع دهره دوماً بيوم

ما هذا إلاّ اشتراء الحمقاء، وبيع الخرقاء، أفلا تصبر على دواء اجتمع جميع الحكماء على أنه أبلغ الأدوية في الشفاء، استراح من لا عقل له، فاتبع العالمين ودع الجهلة.

ألا قم وأسع للعليا لعلك ... فليس بنافع بأبيك فخر
اتلبث في الجفون وأنت عضب ... وتقنع بالخمول وأنت من من
لقد أمتك أبكار المعالي ... وجئنك قد سفرن لك ابتهاجاً
فهل لك من معانقة الغواني ... وهل لك في بكارات إذا ما
وهل لك أن تذل إليك قوم ... وفي قول الأفاضل بعد درس
وخلدك المليك مدا الليالي ... لعلك أن تجوز المجد علك
كذا التحقيق إن لازمت جهلك ... إذا ما سلّ يوم الروع اهلك
ترى من ذا الورى بالعلم املك ... وقد طلبت غواني الفضل وصلك
وما أسفرن للخطّاب قبلك ... على سرر العلا والعز هل لك
فضضت ختامها اعلت محلك ... تراهم حاولوا ذا اليوم ذلك
أدام الله للعلياء ظلك ... وأعزز في أديم الأرض وبلك

وها أنا قد أدبتك بأسواطي، وكررت في الطواف بكعبة نصحك أسابيع أشواطي.
دونك كأس النصح فاشرب بها
فإن أبت إلاّ خلاف الهدى
وذكرنها عرصات البلا
وحر نار نورها ظلمة
ووجه النفس إلى ربها
فاكفف هداك الله من غربها
وموقفاً تسأل عن ذنبها
أعوذ بالرحمن من لهبها

فكن لوصيتي من الحافظين لا من الخافضين، ولا تكن ممن يجعل العظاة عضين، وإياك أن تكون مضروب المثل إن الموصيين بنو سهوان، فتتعرض عند ذلك للهوان، أعوذ بالله أن تكون كذلك وأمثاله إصلاح بالك واستقامة أحوالك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا آخر الكتاب الجامع لأنواع البلاغة وفصل الخطاب مما اشتمل عليه من الأشعار الرائقة، والأمثال الفائقة، والإستعارات الحسنة، والكنايات المستحسنة، فبحق إذا شرح في كتاب كما لا يخفى على أولي الأفهام والألباب.

(3)

عزل الشيخ أحمد بن محمد الأصبعي عن القضاء

قال الشيخ يوسف العصفور في ترجمة الشيخ أحمد بن محمد الأصبعي: وكان معاصراً للشيخ علي بن سليمان القدمي، تولى قضاء البحرين بأمر الشيخ على المذكور ثم عزله عن القضاء لقضية بينهما في مسألة وقعت بينهما في البلد يومئذ في إمرأة طلقت وتزوجت بعد انقضاء العدة وكان زوجها غائباً، فلما قدم ادعى أنه رجع في العدة وأقام بذلك بينة شرعية إلاّ أنه لم يعلمها بالرجوع ولم يبلغها ذلك حتى خرجت من العدة وتزوجت، فاختلفا في ذلك، فحكم الشيخ علي بأنها للزوج الثاني، وحكم الشيخ أحمد بأنها للزوج الأول، وكتبا بذلك إلى علماء شيراز واصفهان فوافقوا الشيخ أحمد وخطأوا الشيخ علي، ولا ريب أن المشهور في كلام الأصحاب هو ما افتى به الشيخ أحمد المذكور، ونحن قد حققنا الكلام في هذه المسالة في الدرة الثامنة والعشرين من {الدرر النجفية}.

(4)

المحقق البحراني وبعض حضار درسه

قال المحقق البحراني الشيخ سليمان الماحوزي: حضر عندنا في الدرس العام بعض الطلبة المتشدقين، وكان الدرس في علم الحديث، فجرى فيه حديث معاوية بن وهب الصحيح عن أبي عبد الله × الوارد في تقديم صلاة الليل أول الليل وفيه قال الراوي قلت: فإن من نسائنا أبكاراً الجارية تحب الخير وأهله، وتحرص على الصلاة فيغلبها النوم حتى ربما قضت، وربما ضعفت عن قضائه، الخبر.
فسأل ذلك المتشدق عن الجملة وهي تحب الخير وأهله، ما موضعها من الإعراب، فأجبته بأنها وصف للجارية أو حال فأعترض على الوصفية بأن الجملة نكرة في المعنى، فلا تقع وصفاً للمعرفة، فقلت له على الفور: كمثل الحمار يحمل اسفاراً، وكان ذلك في سنة الف ومائة وست عشرة من الهجرة.

(5)

المحقق البحراني وبعض فضلاء العامة

جرى بيني وبين بعض فضلاء العامة كلام في قولهم إن زمان الإجتهاد قد انقطع، وإنه ليس لأحد أن يفتي في هذه الأعصار وما قبلها بغير المذاهب الأربعة، وإن كان سند معتد به من النصوص، كما ذكره ابن الصلاح، فقلت: ما دليلهم على ذلك، فتعلق بالإجماع، فعرفته ما في التعلق به من القصور، وأريته ما حكاه جماعة منهم عن أبي حامد الغزالي من القدح في ذلك، ودعواه الإجتهاد المطلق ورجوعه عن تقليد الشافعي، ومناظرته مع أسعد المهنا من أعلام عصره في ذلك مشهورة، وفي كتاب تذكرة دولتشاهي مذكورة، وايضاً فقد نص إمامكم الشافعي على أنه متى صح عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) شيء على خلاف ما أفتى به ترك قوله وعمل بالنص مطلقاً، وما هذا إلاّ نص في خلاف ما قالوه.

قال الشيخ صلاح الدين العلاني الشافعي في المذهب في قواعد المذهب: ثبت عن الشافعي من وجوه متعددة صحيحة أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فقولوا بسنة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ودعوا قولي.

وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم سنة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) خلاف قولي فخذوا بها، ودعوا قولي، فإني أقول بها.

وقال أيضاً: سمعت الشافعي يقول: كل مسئلة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وهذا المعنى ثابت عنه بألفاظ كثيرة متعددة.

قال ابن الصلاح: فعمل بذلك كثير من أئمة أصحابنا، فكان من ظفر منهم بمسئلة فيها حديث ومذهب الشافعي بخلافه عمل بالحديث، ولم يتفق ذلك إلاّ نادراً، ونقل سلوك ذلك المسلك عن أبي يعقوب البويطي، وأبي القاسم الداركي، وأبي الحسن الكنا الطبري.

ثم قال: وليس هذا بالهيّن، فليس كل فقيه يسوغ أن يستقل بالعمل بما رآه من الحديث، ثم نقل عن ابن الصلاح أنه قال: من وجد من الشافعيين حديثاً يخالف مذهب الشافعي نظر، فإن كملت آلات الإجتهاد فيه إما مطلقاً أو في ذلك الباب أو في تلك المسئلة كان له الإستقلال بالعمل بذلك الحديث، وإن لم تكمل آلته، ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث، فلم يجد لمخالفته عنه جواباً شافياً، فلينظر هل عمل بذلك الحديث إمام مستقل، فإن وجد، فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث، ويكون ذلك عذراً له عند الله تعالى في ترك مذهب إمامه في ذلك، انتهى.

وإذا كان الأمر على هذه الحال، فأين الإجماع على ما ذكروه، فسكت، ولم يأت بمقنع.