
بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته وسلامه على أشرف خلقه سيد المرسلين محمد وعلى آله الغر الميامين ولعنته الدائمة على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
[العدالة والمروءة في سلوك عالم الدين]
لم أشأ الخوض في غمار هذا المنحى الخطير ومنزلقاته وارتداداته سواء بالنسبة لي لأنه سيفتح نار ردّات الفعل من المحبين والخصوم معا عليَّ أو حتى من الأوساط الحوزوية ذاتها لتحريكه مياه راكدة تتحول إلى أمواج متلاطمة في موضوع ذو حساسية مفرطة لأنه يحمل طابعا متميزا ملحوظا من عوام الناس فضلا عن المتتبعين الراصدين للحركات والسكنات لشريحة أو طبقة متميزة تصول وتجول ولها إسهاماتها ونجاحاتها وإخفاقاتها في الأوساط المجتمعية ألا وهي(طبقة) (رجل الدين )بالرغم من عدم تفاعلي مع المفردة لأنها مصطلح كنسي غربي زاحف إلينا وهو من الأخطاء الشائعة الاستعمال وأفضل التعبير عنها ب: (شريحة) (عالم) الدين إذ لا تستبطن استعلاءً ولا فوقانية لإنها عنصر فاعل في المجتمع المسلم المؤمن بخلاف مفردة (طبقة) المميزة لرجل الدين و التي تحمل دلالات تتماهى والتراث عندهم أي المسيحيين ونحن وهم على طرفي نقيض من حيث الوظيفة والتخصص.
لن أدخل في مضمار الماهيات اللغوية والاصطلاحية لمفردتي العدالة والمروءة ومباني الأعلام فقهيا إلا يسيراً من حيثية التوافق التقريبي للمعظم في رسائلهم العملية وإن جاء بعبائر وصِيَغٍ لا تؤثر في المعنى الاصطلاحي العام للمفردة أعني به فقهيا إذ هو مستلُ أصلا من اللغة فمن أراد التوسع فعليه بالمطولات وأحسنها عندي الحدائق للمحقق البحراني والجواهر للنجفي والمهذب للسبزواري قدست أسرارهم.
تعريف العدالة:
العدالة: هي حُسن الظاهر والاستقامة على جادّة الطريق واجتناب الصغائر فضلا عن الكبائر.
تعريف المروءة:
المروءة: هي الآداب النفسانية التي تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات.
ملحظ مهم:
ذكر بعض الفقهاء أن فعل ما ينافي المروءة قادح في العدالة.
فما هو المراد من منافيات المروءة وما هو الوجه في قدحها في العدالة؟
وما هو ضابط التحديد؟
ضابط التحديد: هو ارتكاب الأفعال المعدّة لدى العرف عيبا ومنقصة ولكنها ليست محرمة شرعا، وذلك بأن يخرج الرجل ذو الشأن بثياب لا تستر عورته أو يلبس ما لا يناسب مثله كالأكل ماشيا لدى العرف أو يجلس في الطرقات أو يقهقه في المحافل التي لا تليق لأمثاله بنظر العرف كالحضور في مدرّجات ملاعب كرة القدم أو الظهور في الفضائيات جالسا أمام السافرات بلا حجاب والمفاكهة معها وتبادل النظرات والابتسامات.
فما هو وجه الربط بين العدالة وأختها المروءة في كلام الأعلام؟
يوجد هناكَ ربطٌ بالتأكيد لما دلت عليه عمومات بعض الروايات المعصومية على أصحابها آلاف الصلوات والتحيات والأصل في بحثها عندهم على ما يبدو بحسب فهمي القاصر هو: إزاحة عدم التفكيك العرفي بين المصطلحَين المترتب على القول بالفسق لمقتحمها لمن يرى أن منافياتها تقدح في العدالة ومبنى القائل بالعدم هو العدم أي عدم الفسق.
هل ارتكاب منافيات المروءة يُعد فسقا عندهم؟
اتفقت كلمات معظم الأعلام في هذا المطلب بعدم عدّه فسقا إلا القليل جدا وفرّقوا بين أعراف كل بلد في ضوابطها فما يعد في العراق مثلا منافيا قد لا يعد في البحرين منافيا وبالعكس في بقية الأقطار وذلك للتباين في الأعراف وأوكلوا كل ذلك إلى تشخيص المكلف بحسب قطره وبلده.
العدالة وعدّها من الشرائط العامة في المناصب الشرعية شدة وضعفا على القول بالمَلَكَة أي:تعريفها بأنها ملكة قارّة باعثة على ملازمة الورع والتقوى.
فقد اشتُرطت في الفقيه المرجع، والقاضي، وإمام الجمعة والجماعة، والشاهدين، والراوي على مبنى الوثوق به لا بما يرويه فحسب. وأكد القائل بالملكة على شدتها وضعفها والوجدان يشهد به لِعِظمِ مكانة المنصب "وإن كان لا يسلم من الخدشة" عند البعض فقال بأن العدالة في المجتهد الفقيه أرقى من العدالة في القاضي والقاضي أرقى إمام الجمعة والجماعة وهكذا في البقية.
أقول: على أية حال لقد كان الغرض من كل ذلك الاستهلال في المقدمة هو إضفاء نكهة علمية تثقيفية لمن يقرأنا ويثق بما يرشح به يراعنا والله تعالى من وراء القصد.
وما يهمني في هذا المقال هو خروج جملة ممن يُحسب على أهل العلم هداهم الله تعالى "مع حفظ المقامات" لمن هم أهله عن جادة طريق (المروءة) وسأكّف لساني وقلمي عن مفردة (الفسق) وذلك لأن مسألة التفسيق أمر خطير فيها وقوف طويل أمام الباري يوم يقوم الناس لرب العالمين ينبغي ألاّ تسلك مسرب الشخصنة والتجاذبات والأهواء في التقييم للآخر لمجرد الاختلاف في نمط التفكير أو التقليد ونحوه من موارد الاختلاف بين المؤمنين التي لا تفسد في الود قضية.
وأكرر: ما كان لي أن ألج هذا الباب من المواضيع ذات الشجون أو أن أقتحم أسوار أو خصوصية أحد من الخَلق أو تحديده والتنصيص عليه سواء بالإسم أو الصفة أو الأمارة والقرينة أو التلويح لإن ذلك يعد من إثم القلب حتى على مستوى الخاطرة استئناسا بالآية الكريمة "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
ولكنها نفثة المصدور لكثرة صدور المنافيات وكأنها ملكة وإن لم تفضِ إلى فسق تقليدا أو اجتهادا ولربما أفضت عند التحقيق ولا أقلّها الوقوف على ساحل بحر الاحتياط ولو استحبابا متابعة للذاهب بقدحها في العدالة وهو مرانٌ جيد في ميدان ترويض النفس ومجاهدتها وتزكيتها وحملها على محاسن فعال المروءة لكي تطمئن نفوس المأمومين في قدوتهم صلاة وهديا وسيرا وسلوكا واستقامة في جميع الأنحاء في انتخاب الألفاظ من على منبر الخطابة وفي المشي في الزقاق وفي الحديث مع بائع الخضار ومع كيفية التعاطي مع الشباب الذي عادة ما يأنس بمن يبحث في قضاياهم وهموهم خاصة إذا كانت تغوص في قعر مشاكلهم النفسية ومحاولة احتوائهم والقرب من وجدانهم.
والأمثلة أكثر من أن تسعها هذه العجالة..
فأن كل ذلك مما يقوي ما ذهب إليه أحد الأعلام بأنه كلما كملت مروءة الإنسان كلما اشتدت عدالته في الأوساط وكان تأثيره أقوى ممن لا يهتم بهذا المعيار الأخلاقي معتمدا على القول بعدم الخدشة أو القدح في العدالة فيقتحم منافياتها وهو لا يعِ لحظ العيون وترتيب الآثار فالعامي في الغالب لا يميز بين المنافي للمروءة وبين ما نصت عليه النصوص الشرعية وهو مبلغ فهمه من اعتبار العدالة في العالم القاضي أو الإمام جمعة أو جماعة للارتكاز المتشرعي والعرفي بأنه يمثل نصاعة الدين وقداسته ما دام قد تلبّس بالعنوان أعني به العالم وأن أدنى مخالفة منه فإن مصيرها النفرة وتسليط الأضواء على المخفي من الوجه الآخر للشخصية وتتبع الزلات والعورات لإشاعتها على الملأ إذ تحكم مناشئ معظم الناس آفة الجهل والحسد والشخصنة وتصفية الحسابات.
إلى حد الإشهار والتشهير على منصات التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم.
فالله تبارك وتعالى وهو خالقهم وباريهم والمنعم عليهم وبدلا من شكره لم يسلم من ألسنتهم فكيف بي وبك المتلفّعون بالغفلة والسهو فهم لا ينسون الزلة مهما تقادمت بهم الأيام والأعوام ولا يحملون محامل الخير فيما تعددت فيه الأوجه والتأويل من الصلاح والقصود فكيف بهم في الواضح من المنافيات وإن لم تقدح في العدالة اجتهادا أو تقليدا؟
ولا حتى يفهمون أو يدركون بأن العدالة إن فارقت صاحبها آناً ما سرعان ما تعود بالتوبة والاستغفار والندم على ما فات أو أنها ليست من الملكات القارّة في النفس أو أنها من الكسبيات ومبلغ علمهم الإجمالي مقصور بحدود قداستها فقط وفقط إلى حد إنزالها منزلة العصمة أو هي أختها.
والنفوس، بل العقول في العادة حين المقارنة إنما تهفوا للمتزن دون المتخبط.
تقترب وتُقبل على الأعلى مكارم أخلاق وإن كان متواضع التحصيل العلمي وتذر العنيف اللاأبالي وإن كان مراهقا على درجة الإجتهاد وهو ما عايشناه ولمسناه.
دعوة أخوية:
وختاما: دعونا أحبتي نعيش العدالة والمروءة الذاتية وبصدق حتى نضخّهما عمليا في أقوامنا كي نستحق لقب(قدوة)الذي يعني المثل الأعلى فيما يُقتدى به وليس محصورا في المعنى الارتكازي وهو إمامة الصلاة فقط وإن كان من أجلى المصاديق وأشرفها وإنما نعيشهما حتى في السكنات والحركات وجميع مناحي الحياة، فلا يُعقل أبدا أن يكون مَن اتخذه الناس رمزا لعدالته وتقواه وورعه طبقا لتشخيصهم ويطالب بالعدل والعدالة ويمقت الظلم والظالمين أن يجانب المروءة التي تساوق العدالة في مفهومهم ومرتكزهم العرفي أن يخالفها عمليا.
وهي دعوة لي قبل غيري استلّها من درة ملك الكلام أمير المؤمنين علي عليه صلوات وسلام الملك العلام "من نصَب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم". فإن فيها نورية العدالة والمروءة مجتمعة لمن أجال بصر بصيرته ويا ليت قومي ينعمون فيها النظر امتثالا عمليا لا لعلعة من على المنابر والمحاريب فهم واقعا تحت المجهر في مختبر الشباب المؤمن الفاحص الراصد حتى للحركة فضلا عن الكلمة و التعاطي مع الحدث وقبلها رقابة الله تعالى جل في علاه ومعيته التي تلخّصها الآية المباركة "وهو معكم أين ما كنتم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون" ففيها كفاية لمن استعصم بالعروة الوثقى وخالف الردى.
وقد يشكو البعض من تفرّق الناس من حوله وقلة من معه بالرغم من تفانيه وعدالته وإخلاصه والحقيقة أنه لم يضع يده على الجرح ليشخص الأسباب ربما غفلة منه وهو لا يعلم بأنه أحد أكبر أسباب التنفير منه جراء عدم اعتنائه بالقادحات وتلافيها واستبدالها بالمكرمات والسير على هديها وتفعيل النظري [منية المريد في آداب المفيد والمستفيد للشهيد الثاني جامع السعادات للمحقق النراقي الحقائق للمتأله الكاشاني الأخلاق للفقيه سيد عبد الله شبر أخلاق أهل البيت (ع) للسيد مهدي الصدر طاب ثراهم]إلى عملي على واقع مسيرته التبليغية مستفيدا من تجارب السلف مع أقوامهم وكيف كانت مرموقيتهم في قلوب أتباعهم لأنهم أتعبوا أنفسهم في مضمار العدالة والمروءة فحازوا قصب السبق فتجلت عمليا على ربوع حركاتهم وسكناتهم فهفت لهم القلوب وكانوا قدوات صالحة حتى بعد رحيلهم للرفيق الأعلى.
فهم ترجمان ساداتهم فيما اقتبسوه من درر تراثهم وسيرتهم العملية.
أوَليست السيرة أحد أدلة الحكم الشرعي إن كانت متصلة بزمن المعصوم ولم يكن لها رادع؟
فهو كذلك متحقق هنا في مسألتنا هذه محل البسط.
كل ما مر عليك خاضع بالتأكيد للآية المباركة "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" المغفول عنها ميدانيا عندنا.
فمن كمل نسبيا عدالة ومروءة فليزدد، ومن لا يزال يراوح مكانه فليشحذ الهمة نحو كمالهما سواء قلنا بقدح منافيات المروءة للعدالة أو قلنا بالعدم.
فالعامي الصرف لا يفكك غالبا في ما يقدح وما لا يقدح نظريا وجلّ ما يفقهه من الهيئة والتلبس بالعنوان هو أن عالم الدين ذو رتبة ومنزلة ووجاهة تالية ربما بعد المعصوم عليه السلام وإن تخلخلت هذه النظرة المقدسة اليوم وفقدت بريقها لأسباب يطول شرحها في هذه العجالة.
يرى فيه الطهر والنقاء وحُسن السيرة والمسيرة والحذر في النطق وانتخاب الكلمات والترفع عن سفاسف الأمور وما لا يليق بمثله فعله.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
...........................
وانفتل القلم من ركوعه وسجوده في سحر ليلة الثالث والعشرين من شوَّال ١٤٤٦ هج.
الموافق:٢٠٢٥/٤/٢٢م.
السيد جميل المصلي.